بقلم برهان الأشقر
على مقاعد هذه المدرسة أظهر موهبةً استثنائيّة، عرف أساتذته يومها أنّ هذا الطالب لا يشبه سواه، وأنّه يوماً سيكتب تاريخ المدرسة، وسيحفر اسمه في سجلاّتها بحروف من ذهب. كان للمدرسة ما أرادت، طالباً نجيباً تخرّج من صفوفها، طالباً وفياً يذكر دوماً أنّ على مقاعدها تعلّم الحرف والجمع والحساب، أصبح أبا المحاسبين العرب، ومنها اكتسب المعرفة أصبح عامل معرفة، لقب يفخر به.. تعلّم من أساتذته أنّ طلب العلم لا ينتهي عند أبواب المدرسة، هو تلميذ الكتب والحياة وتجربة عمر مديد كلما اعتقدت أنّك عرفت عنها الكثير، تكتشف أنّ هناك أكثر.
المناسبة كانت زيارة الى مدرسة المقاصد الإسلامية ولقاء بعض تلاميذها، يحلم معظمهم أن يصبح يوماً طلال أبوغزاله، لا شيء مستحيل، أبوغزاله نفسه كان يحلم، حدث هذا في خمسينيات القرن الماضي في بيروت، حين جلس على مقاعد الدراسة في مدرسة المقاصد، والتقى يومها بصديق عمره محمد السمّاك.
كانا اثنين ثالثهما منقوشة، يخبر د. طلال أنّ منقوشة الزعتر زاده اليومي سُرقت يوماً، دعاه زملاء الدراسة يومها إلى الغداء، رفض بحجّة أنّه أكل، نظر إليه صديقه الذي سرق المنقوشة، كان يعرف أنّه يتضوّر جوعاً، ويرفض الدعوة لأنّ عزّة نفسه تمنعه، عندما كبر كتب مقالاً اعترف فيه أنّه هو من سرق المنقوشة. على باب المقاصد التقيا مجدداً، أمسك أحدهما بيد الآخر، وسارا في أروقة المدرسة، ولم ينس د. طلال أن يعاتبه بمفعولٍ رجعي.
إلى صفّه توجّه د. طلال ممسكاً بيد رفيق دربه، دخلا إلى الصف، عقود طويلة مرّت منذ أن غادره، عاشت خلالها بيروت أيام سلامٍ فحربٍ فسلامٍ ورخاء ثم انهيار، تغيّر كلّ شيء لكن الصف بذكرياته أعاد عقارب الزمن أكثر من سبعين عاماً، حين كان طلال التلميذ النّجيب يسابق الزّمن ليثبت للمدير الذي مزّق ورقة تسجيله يوماً لأنّه لم يكن يملك المال، أنّ خطواته كانت لتقف عند هذا الحد لولا إصراره على طلب العلم رغماً عن أنف الظّروف.
لم يكره التلميذ طلال مديره، كان ابنه حاضراً خلال زيارته إلى المدرسة، أخبره أنّه تعلّم الدّرس الأهم في حياته من والده، ولا يزال يطبّقه في مجموعته وهو أن “ما حُفظ فرّ وما كُتب قرّ”.
بدهشة من لم يكتفِ من الدّهشة ولا زال يدرك قيمة التفاصيل، كان يستطلع تفاصيل المكان، هنا تشكّلت شخصيته، وهنا خطّط لمستقبلٍ عرف أنّه سيكون لامعاً، وهنا كان يقول لنفسه إنّه سيعود يوماً ليخبر أساتذته أنّ عليهم أن يفخروا لأنّ على أيديهم تتلمذ طالب نجيب، نظر إلى مديرة المدرسة وتوجّه إليها بالقول “نحنا تلاميذك.. ونحنا شاطرين”، شعرت المديرة بالإطراء، وأغرق الحاضرون بالضّحك، ضحك معهم وكانت عيناه تدمعان حنيناً، رفيق الطفولة إلى جانبه يشعر بحنين مماثل، إلى زمنٍ مضى ورفاق درب تفرقت بهم السّبل.
فرحة لقاء المديرة بتلميذ تخرّج من مدرستها ليصبح شخصية عالمية لم تكن عادية، جعلتها تتخبط يميناً ويساراً تريد استغلال الوقت بكل ما تستطيع لإبقائه مدة أطول قبل ان يقرع أحدهم الجرس، ولتستأذن بطلب وقت اضافي من برنامجه المزدحم، بعفوية تسألني: من تكون؟ ابتسمت وقلت لها: الآن وفي هذا المكان انا ولي امر الطالب طلال أبوغزاله، وجئنا نطمئن على وضعه في المدرسة.
ضحكت وقالت: وهل سيأتي مثله في الحياة! فأخطرت تطلب على عجل بعضاً من تلاميذها كانوا ينتظرونه خارجاً ليطلعوه على اخر ابتكاراتهم في الذكاء الاصطناعي والابتكار، ليثبتوا له كيف ان التلميذ المعلم طلال أبوغزاله سطّر رسالة سيخلدها التاريخ لأجيال ليتبعوا خطاه.
انتهى هذا اليوم التاريخي في منبر المقاصد الثقافي حيث اعتلى أبوغزاله المنبر، وهناك خلع عنه المريول ولم يخلع ذكريات ظنّ أنّ بعضها طواه الزّمن.