في ظلال طوفان الأقصى “91”
ملوك الطوائف القدامى أضاعوا غرناطة والجدد تخلوا عن فلسطين
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
ما منا نحن العرب والمسلمين، رغم مضي الزمن وتقادم الأيام، إلا ويصب جام غضبه على ملوك الأندلس ويلعنهم، ويتحسر على ملكهم ويبكي على مجدهم، الذين عرفوا تاريخياً بملوك الطوائف وأمراء الممالك، وحكموا بلاداً جميلةً وأرضاً خلابةً، مزدهرةً متطورةً، آمنةً مطمئنةً، غنيةً ثريةً، يأتيها رزقها سخاءً رخاءٍ من كل مكانٍ، وينعم أهلها بالسلام وشعبها بالأمان، ويعيشون النعيم والترف، والهناء والسعادة، ويتمتعون بالعلوم والمعرفة، وبالفن والفلسفة، وعلوم الطب والرياضيات، وعلوم الطبيعة والفلك.
وكانوا فيها ملوكاً يتبخترون، وأمراء يختالون، وأعزةً يتباهون، وأسياداً يتعالون، يأمرون ويطاعون، ويحلمون ويحققون، إلا أنهم لم يحمدوا الله عز وجل على عطائه، ولم يشكروه عن نعمائه، ولم يتواضعوا في حكمهم، ولم يحافظوا على ملكهم، ولم يدافعوا عن بلادهم، ولم يكونوا كراماً مع شعوبهم، ولا صادقين مع أهلهم، فاستحقوا الحتمية التاريخية، والنهاية الطبيعية، ونالوا جزاءهم الأوفى، واستحقوا العقاب الأقسى الذي نزل بهم، والخاتمة الأسوأ التي خلدت هلاكهم.
أولئك الملوك والأمراء الذين كانوا ملء سمع الدنيا وبصرها، وكانت بلادهم كعبة القصاد وجامعة العباد، وأرض الحضارات، أضحوا فيها عبيداً عند أعدائهم، وأدواتٍ في أيديهم، وسيوفاً يرفعونها في وجه إخوانهم، وفزاعاتٍ يستخدمونها لتخويفهم من بعضهم، ونزع الثقة التفريق بينهم، وزرع الفتن وإشعال الحروب بينهم.
وقد اطمأنوا إلى عدوهم وعاهدوه، وصدقوا روايته وآمنوا برسالته، ووثقوا به وركنوا إلى وعوده، وأعطوه العهود والمواثيق بأن يكونوا معه، وألا ينقلبوا عليه، وأدوا إليه أموالهم وخيرات بلادهم، وأمدوه بالسلاح والعتاد، وشاركوه حصار شعبهم وتجويع أهلهم، وكانوا سوطاً بيده يكوي بها ظهور أمتهم، ويسوق بها سادتهم، طمعاً في مستقبلٍ مستحيلٍ، واستقلالٍ مجيدٍ، ودولةٍ مأمونةٍ وكيانٍ مستقرٍ.
إنه التاريخ يعيد نفسه في فلسطين ويكرر ذاته في قطاع غزة، وكأننا نعيش قبل أكثر من ثماني مائة عامٍ، عندما حاصر الإسبان مدن المسلمين وجوعوا أهلها، وأغلقوا بواباتها وحاصروها، ومنعوا دخول المؤن والمساعدات إليها، وقتلوا كل حرٍ انتصر لها، واغتالوا كل شريفٍ حاول مساعدتها ومد يد العون لأهلها، واستخدموا ملوك الطوائف في قمع انتفاضات شعبهم، وإجهاض مقاومة أهلهم.
وازداد حصارهم لبعض الممالك الثائرة، التي رفضت الخضوع وأصرت على المقاومة، وضيقوا عليها وحاولوا خنقها، وحرقوا مزارعها وخلعوا أشجارها، وأتلفوا محاصيلها وحرموهم من ثمارها، وردموا آبارها وسمموا بعضها، فعطش أهلها وجاع سكانها، ومات كثيرٌ منهم جوعاً وعطشاً، ولم ينجُ من الموت طفلٌ لا امرأة، ولا شيخ قاعد ولا فارس مقاتل، حتى الدواب في حظائرها نفقت، وفي مراعيها هلكت.
ازداد الحصار واشتد، فنحلت الأجساد ووهنت القوى وعض الجوع الناس بنابه، بينما خزائن أمتهم مليئة بالأقوات، وزاخرة بالخيرات، وغنية بكل ما يحتاجه العباد، وبعد حصارٍ طويل قام الإسبان بتواطؤٍ من ملوك الطوائف وحكام المقاطعات، بقذفها بالمجانيق وأحرقوها، وكانوا من قبل قد سوروها وأحاطوا بها، ودخلوها عنوةً، وأعملوا سيوفهم في رقاب أهلها وقتلوهم، فسالت دماء عشرات آلاف المسلمين وإخوانهم إليهم ينظرون، وهم الذين أمنوهم ووعدوهم، وأغروهم بالعطايا والغنائم.
ها هي اليوم غزة، درة مدن فلسطين وتاج المقاومة، عنوان الشرف وأيقونة الشجاعة، تعاني مما عانت منه غرناطة وأشبيلية وطليطلة وغيرها، وتشتكي ظلم الملوك وعجز الأمراء، وتعاني من تحالفاتهم وتتألم من خيانتهم، وتبرأ إلى الله عز وجل من عجزهم وجبنهم، ومن هوانهم وذلهم، لكن غزة التي ما فرط أهلها، ولا استكان شعبها، ولا ركنوا إلى عدوهم، ما زالت تقاتل وتقاوم، وتصر على مواجهة العدو رغم فارق القوة وقلة السلاح، وتؤمن بأنها مهما طال الزمن فإنها ستنتصر، وستحقق أهدافها وستدحر عدوها، وستنال منه وستعلمه درساً في مضاء المقاومين، وقدرة المظلومين، وصلابة المخلصين.
أيها الملوك والأمراء، يا أصحاب التيجان والعروش، يا أصحاب السيادة والفخامة، ويا حملة النياشين والأوسمة، إن غزة تناشدكم وتستصرخكم، وتستجير بكم وتستنصركم، لكنها تحذركم وتنبهكم، ألا تكونوا كمن سبقوكم من الملوك السذج والأمراء الأغرار، الذين فرطوا في فردوسهم الأعلى وملكهم الأغلى، وجنة المسلمين على الأرض، ومنارتهم العالية، وحضارتهم الرائدة، وعلومهم المتقدمة، وتفوقهم العسكري، واتحادهم القوي، واتفاقهم المتين، وباعوا أندلس المسلمين فهلكوا، وفرطوا في ملكهم وقتلوا، واستخدمهم العدو أداةً رخيصةً في أعمال دنيئةٍ ثم تخلى عنهم وألقى بهم، وقتل بعضهم ومثل بأجسادهم، ونفى أكثرهم وأذلهم وأهانهم، واسترق أطفالهم وسبى نساءهم، وبدل أسماءهم وغّيَّرَ أسمالهم، حتى غدوا أبعد ما يكونون عن العرب لساناً، وعن المسلمين ديناً.
أيها السادة احذروا أن تخونوا الأمانة وتفرطوا في القدس والمقاومة، وتتخلوا عن غزة وأهلها، وتخذلوا المقاومة ورجالها، وتبدلوا الآيات وتحرفوا القرآن، وتوالوا من حارب الله ورسوله، وتتحالفوا من نهب خيراتكم واستباح محرماتكم وقتل أبناءكم، واعلموا أن التاريخ لا ينس من فرط في الأرض والمقدسات، ولا يرحم من تهاون في الحقوق وخان الأمانات، واعلموا أن فلسطين في أعناقكم أمانة، وفي كتاب ربكم عز وجل آية، وفي قلوب أمتكم وصية، فمن فرط فيها كفر وخان، ومن خذل أهلها ذل وهان، ومن انتصر لها عاش وكان، وخلد اسمه بأحرفٍ من نورٍ على هام الزمان.