كتب حسان الهامي ..
في سجلات التاريخ، ظهرت شخصيات تقدم سيرة حياتها شهادة عصر على الروح التي لا تقهر. وإحدى هذه الشخصيات المميزة الدكتور طلال أبو غزالة؛ إذ تمثل رحلته قصة ملهمة عن الانتصار على الشدائد والمحن المريرة التي خلفتها المؤامرة الصهيونية على فلسطين.
عام 1948 انفتح جرح فلسطين الغائر وبدأت معاناة شعبها التي غيرت مجرى التاريخ إلى الأبد، وكان الفتى طلال من بين الذين اجتاحتهم هذه المأساة حيث شهد وهو في سن الطفولة التهجير القسري الذي من شأنه أن يقلب حياة أسرته بعد أن ركبت سفينة متجهة لحياة جديدة غير مؤكدة، إيذانا ببداية فصل تحدده معاناة الشعب الفلسطيني.
رويدا رويدا تتكشف حقيقة اللجوء الصارخة أمام أعين الصبي الصغير. صدى شوارع قريته وبيوتها المعتقة بعطر التاريخ التي كانت مسالمة في يوم من الأيام بأصوات المغادرة والوداع الممتلئ بالدموع.
بالنسبة لوالديه وأطفالهما الأحد عشر، كان أملهم الوحيد يكمن في سفينة الشحن التي أبحرت باتجاه ميناء صيدا بلبنان، لتفتح صفحة جديدة في حياتهم خارج حدود فلسطين. وكانت الرحلة مليئة بآمال وأحلام ركابها، مليئة بالأمل واليأس. حملت قلوبهم ثقل ذاكرة المفقودة والحنين إلى أرض الأجداد والآباء.
على الرغم من المعاناة والخسارة، فإن صمود طلال كطفل صغير وتصميم أسرته على الحفاظ على تراثهم وسط هذه المأساة أصبح شاهداً على روح الشعب الفلسطيني التي لا تلين.
أولى معارك طلال كانت من أجل التعليم فقد علمه الطعم المر للنزوح أن الحياة تتطلب الشجاعة والمثابرة للمضي قدمًا. وبينما كانت ظلال الشك تلوح في الأفق، أصبح السعي وراء المعرفة منارة للأمل، وملجأ له في الأوقات المضطربة، بدءًا من إكمال دراسته بدعم من والده، مرورًا بالرحلة الصعبة إلى مدرسة أميركية في صيدا، والمهمة الشاقة المتمثلة في تأمين الرسوم الدراسية لمواصلة التعليم، ومن ثم مواجهة التحدي المتمثل في تأمين الرسوم الدراسية لمدرسة المقاصد الإسلامية، فكانت روحه الثابتة ودعم والده بمثابة منارات للأمل للفتى طلال. وكان مدركا أن الرحلة المقبلة صعبة، لكن تصميمه الذي لا يتزعزع يعد بشق طريق نحو مستقبل أكثر إشراقًا، حيث يصبح التعليم والمعرفة مفاتيح لفتح الأبواب التي كانت مغلقة في يوم من الأيام.
اقترب طلال من مدير مدرسة المقاصد الراحل محمد سلام باقتراح من شأنه أن يغير مجرى حياته. وطالب بفرصة لإثبات نفسه، مقترحًا “منحة مجانية بشرط تفوقه وحصوله على المركز الأول، وإلا فإنه سيدفع الرسوم كاملة قبل نهاية العام الدراسي”. وهنا أثمر تفاني طلال وعمله الجاد فحقق تفوقاً أكاديمياً مميزاً وحصل على المركز الأول في فصله.
ولأن رحلة طلال سيمفونية متناغمة من المرونة والسعي وراء التميز لم يغفل عن احتياجات أسرته، فكد بدوره المتواضع كبائع متجول للمثلجات وجسد المثابرة والمسؤولية. ومن ثم أضاء عمله في محل لبيع الأسطوانات الضوء على بالموسيقى الكلاسيكية والتي ما لبثت أن شقت طريقاً جديداً في حياته، مسار جلب الجمال والإلهام إلى قلبه.
وعلى الرغم من مواجهته للتحديات وعدم الرضا في بعض الأحيان، فهم طلال أن كل مهنة تضيف إلى نسيج حياته شيئا جديدا، فكان يعمل في سوق الخضار قبل بدء صفوفه الدراسية وفي المساء يعمل في محل بيع الأسطوانات.
غير ان سعي طلال الدؤوب للمعرفة وكفاءته في اللغة الإنجليزية فتح الأبواب أمام فرص جديدة ليجد نفسه هذه المرة مدرسا للبنات، وشغفه بالأدب، وخاصة روايات شكسبير، لم يؤد إلى إثراء مهاراته اللغوية فحسب أو تدريس الروايات في مدرسة البنات، بل ألهمه أيضًا لاستكشاف عالم الترجمة.
ومجددا توجت رحلة طلال في التفوق الأكاديمي والبراعة اللغوية بإنجاز مهم حين حاز المرتبة الأولى في امتحان الثانوية العامة على مستوى في الجمهورية اللبنانية، ليبدأ فصلًا جديدًا من حياته، حيث انفتحت أبواب التعليم العالي على مصراعيها بمنحة للدراسة في الجامعة الأمريكية قدمتها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين وتغطي الرسوم الجامعية، والكتب، والإقامة، والوجبات.
وبعد التخرج من الجامعة، شرع طلال في البحث عن وظيفة، وتقدم إلى العديد من الشركات في لبنان ودول الخليج العربي، فعمل وكد حتى أصبح اليوم فخرا عربيا بعمر من الإنجازات والمساهمات البارزة في التعليم، والمحاسبة، والملكية الفكرية، وإدارة الأعمال، والإدارة، والتجارة، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والعلوم والتكنولوجيا.