حين يسمع المرء بسلبيّة التحايل لأول مرة أثناء اطلاعه على منهج المعرفة، يتبادر الى ذهنه التساؤل عن الفرق بين التحايل المقصود في عرف المعرفة والإحتيال الذي يعرفه الناس ويعاقب عليه القانون؟
من هنا نوضّح أن الإحتيال كجرم كما يعرفه القانون بحسب موقع المحامون العرب – (محاماة نت) على أنه الإستيلاء على أموال الغير من خلال إستعمال وسائل يشوبها الغش أو الخداع ويؤدي الى وقوع المجني عليه في الغلط وتسليم المال الذي في حيازته. فالإحتيال الذي يعاقب عليه القانون مرتبط إرتباطًا وثيقًا بالمال وتحقيق ربح غير مشروع عن طريق إيهام الضحيّة بوجود مشروع كاذب وإحداث أمل وهمي بتحقيق أرباح للإستيلاء بطرق الإحتيال على أمواله…
إنما حين نتحدّث في نطاق المعرفة عن التحايل كصفة سلبيّة في النفس البشريّة، فنحن طبعًا لا نقصد النواحي الجرميّة للإحتيال، بل المقصود نواحي اللاصدق الخافية مع النفس ومع الآخر. المقصود في العرف الباطني للتحايل هو عدم تطابق الفكر مع القول مع العمل، هو عدم الإلتزام بالوعود والعهود وخلق الأعذار لتهريب النفس منها. التحايل في العرف الباطني هو وضع قناع يخفي حقيقة النفس. قناع يأخذ عدّة أوجه، هدفه، خدمة سلبيّات الأنا أو الرفض أو الإنغلاق في الدفاع عن نفسها (أي الأنا).
التحايل المقصود هو غياب التطبيق العملي وإيهام النفس بأحقيّة كل الأعذار التي تبعدها عن العمل، خاصة فيما يتعلّق بإستئصال السلبيّات وتطبيق منهج علوم الإيزوتيريك حياتيًّا.
هذا الواقع برأي ليس من نظير الصدفة، ولا هو وليد الأزمات الإقتصاديّة أو السياسيّة، ولا هو نتاج تزايد حالات الفقر في المجتمع. فمجتمعنا في هذه المرحلة، راح يظّهر صورًا “للإنسان المثال”. فالمثال للرجل مثلاً، هو الرجل الذي يمتلك المال، النفوذ، والسلطة. فيما المثال بالنسبة للمرأة فهو، إضافة الى ما سبق، التحلّي بالجمال وإن جاء “إصطناعيًّا” أي عن طريق الجراحات التجميليّة، إضافة الى الشهرة. فرحنا نشهد على واقع أن الغاية تبرّر الوسيلة، والسعي الى تغليف النفس بهذه الصور وإن وهمًا أو تحايلاً يساعد النفس على تعزيز مكانتها الإجتماعة والماديّة لاحقًا، خوفًا من الصور المعاكسة التي قد يكونها المجتمع عن الفرد جرّاء واقع الحال والظروف الحياتيّة كضيق الحال أو الفقر التي تشكّل صور مخالفة للصورة “المثال” والتي قد لا تعزز صورة الأنا الفرديّة.
لمعالجة آفة التحايل في النفس، لا بد من التنبّه لأوجه التحايل في المسلك الفردي وتحديد السلبيّات التي تغذيها وتفعلها. ومن هذه السلبيّات التي نلفت النظر اليها هي الخوف وخاصة من المواجهة، النزعة الى التسلّط، العنف، الأنا والأنانيّة.
ولفهم دور هذه السلبيّات لنأخذ بعض الأمثلة الحياتيّة لتوضيح دورها. فالخوف من المواجهة أو الإعتراف بالخطأ والتقصير قد يدفع المرء الى اختلاق أعذار أو تبريرات لإخفاء الخطأ وتخليص أنا النفس من اللوم أو نظرة الآخر السلبيّة يعني “لحفظ ماء الوجه”… أمّا العنف فقد يأتي كقناع لإخفاء ضعف النفس وانتفاء المنطق والرزانة في مقاربة الأمور وتجنب المواجهة المبنيّة على مقارعة الحجّة بالحجّة. هذا ما قد يتمظهر أيضاً على شاكلة النزعة الى التسلّط لتمرير متطلبات ورغبات النفس من دون مواجهة أو اعتراض من الآخر.
وفي هذا السياق لم يعد خافيًا على أحد تأجج التحايل في النفس في أشكال وألوان مختلفة إذا ما كانت الخلفيّة هي المصلحة الفرديّة والأنانيّة، أو إن أتت لإظهار الأنا بشكل لمّاع يخدع الآخر بمظهره فيما المضمون مغاير للصور. فالحياة من حولنا تعجّ بنماذج من التحايل المرتكز على حبّ الظهور، التشاوف، الغرور، الخ من سلبيّات الأنا أو الناتجة عن الخوف على صورة النفس أو على مستقبلها…
أمّا الحل فيبقى عبر إيجابيّات الصدق والصراحة في قول الحقيقة على قاعدة الجرأة في المواجهة، إضافة الى التعبير الصادق برقة وعاطفة ومنطق في آن. هذه الإيجابيّات هي خير علاج مسلكي للتخلّص من آفة التحايل من النفس، والتي عبر اعتمادها تطبيقًا عمليًّا، ترتقي النفس في مسار ترقيها على معارج الوعي وتكتسب الشفافيّة في تعاطيها مع الآخرين ومع نفسها. هذا ما يشرّع أمامها أبواب تفتّح الطاقات الهاجعة وأهم تلك الطاقات، كما تخبرنا علوم الإيزوتيريك، هو طاقة الذكاء المؤسسة على النقاء.