بقلم: برهان الأشقر
ما إن بدأ العالم يتنفّس بعد جائحة كورونا، حتى بدأ يتحسس الأضرار والخسائر الفادحة التي خلفتها الجائحة، التي أتت مع أزمة إقتصادية عالمية تسببت بحالة من التضخم والكساد في آن معاً، ليزداد النزيف الإقتصادي بشكل دراماتيكي مسبباً شللاً في مفاصل جميع القطاعات، واكثرها خطورها كان قطاع التعليم الذي هو أساس بناء كل شيء.
إرتفاع سعر طن الورق إلى ضعفين، وارتفاع تكاليف الشحن مشكلة حقيقية خلّفها الوباء الذي قدّم بدوره حلولاً شافية لمشكلة الورق، حيث بات العالم اليوم أكثر انفتاحاً على فكرة التعليم عن بعد، وعلى فكرة الاعتماد على الكومبيوتر والألواح الإلكترونية بديلاً للكتب الورقية، مع ما يوفّره من تكاليف ماديّة باهظة، جعل من مشروع المدرسة الرقمية والجامعة الرقمية الوسيلة الوحيدة لإنقاذ البلاد، خصوصاً تلك التي لا تستطيع توفير متطلبات التعليم بالحد الأدنى مثل سوريا ولبنان، او تعاني من نقص شديد في الخامات مثل مصر.
ففي مصر على سبيل المثال، ورغم مرور أسابيع على بداية النصف الثاني من العام الدراسي، هناك مدارس لم تسلم الكتاب المدرسي لطلابها حتى الآن، بسبب نقص الخامات لدى المطابع. ويصل سعر طن الورق المستورد حاليا إلى 1400 دولارا، وتحتاج مصر سنويا أكثر من 280 ألف طن ورق للطباعة والتصوير.
كل هذه التحدّيات تطرح اليوم وبجدّية مسألة التحوّل الرقمي في مجال التعليم، والبدء عملياً بالتخلّص من عبء الورق، نحو التعلم الرقمي عبر الكومبيوتر، واعتماد الكتاب الإلكتروني للطلاب ما سيوفّر الكثير من التكاليف على ميزانية الدول ومواطنيها.
يذكرنا هذا المشهد بمؤتمر “التعليم العالي في العالم العربي… بناء ثقافة من الابتكار وريادة الأعمال“ الذي نظمته الأكاديمية العربية للعلوم بالتعاون مع اليونيسكو في بيروت عام 2018 – أي قبل جائحة كورونا بعام تقريباً – حينها القى الدكتور عدنان بدران كلمة خلال المؤتمر عن تطور التعليم، وتلاه الدكتور سلطان أبو عرابي والسفيرة سلوى غدار وصفق الحاضرون لهم بحرارة، الى ان اعتلى الدكتور طلال أبوغزاله المنصة والقى كلمة ارتجالية كالمعتاد – فهو لا يحضر خطاباته كالآخرين – فلم يصفق احد في البداية لأن الجميع كان في صدمة من هول ما قاله “المعلّم”.
تحدث أبوغزاله حينها عن مصطلح “ايديوكا” (Educa) الذي يعني الإنتقال من التعليم الى التعلّم والإبتكار، داعياً جميع مؤسسات التعليم الى الانتقال الى التعلم الرقمي بدلاً من التخلف والرجعية باعتماد اساليب التعليم التقليدي.
وصدم الحاضرين بقوله “أنا لست هنا لأمدح نظام التعليم بل لأدفنه، ليس فقط في العالم العربي بل في العالم كله لأننا ما زلنا نتعلم مثلما كنا في زمن الكُتّاب حيث كان الطلاب يجلسون على الأرض ويتعلمون من مدرس، و ما يختلف الآن عن ذي قبل هو أن الطلاب أصبحوا يجلسون على كراسي ليس إلا.”
ورفع أبوغزاله منسوب الأدرينالين وربما ضغط البعض بقوله “”سأبحث عن امكانية رفع دعاوى قضائية على أنظمة التعليم في كل دولة في العالم بسبب فشلها بتوفير احتياجات الطلاب وبسبب عدم قدرتها على التكيف مع متطلبات التقدم والتغيير والمستقبل.”
لم يكن أبوغزاله يستشرف المستقبل القريب ولا جائحة ستجبر جميع سكان الكوكب بالانتقال الى التعليم عن بعد رغماً عنهم، بل كان ينظر الى مستقبل بعيد ينتهي على الأقل بنهاية القرن الذي سيكون فيه الحكم والغلبة للذكاء الاصطناعي والإبتكار والتعلم الرقمي بكل تأكيد، “ولات حين مناص”.
فمنظر التلاميذ صباحاً كسنابل القمح مائلون الى الأمام حاملين حقائب حبلى بالكتب والدفاتر والأدوات المدرسية لا يتناسب بأي شكل من الأشكال مع التقدم العلمي والتعلم الرقمي الذي اصبح عنوان المرحلة، فاستغل أبوغزاله الفترة الماضية ليعمل بصمت على مشروع جديد اطلقه بداية هذا العام تحت اسم “تاجيبيديا التعلّم الرقمي”، يرى فيه أن المدرسة الرقمية والجامعة الرقمية سيكونان طوق النجاة لجميع مشاكل قطاع التعليم بشكل بسيط وسهل يوفر على جميع مدخلات التعليم الكثير من النفقات و يضمن مخرجات افضل واكثر ابتكاراً لخدمة البشرية.
وبصراحة شديدة، قادني الفضول لمعرفة ماذا يدور في عقل أبوغزاله لقراءة هذا المشروع بتمعن شديد، فوجدت الرجل قد حدد المشكلة ببساطة حيث حدد احتياجات التعليم بثلاثة أمور لا رابع لها وهي: برامج التعلم الرقمي، والأجهزة الالكترونية، وامكانية الاتصال بشبكة الإنترنت.
ولم يكتفي بتحديد المشكلة، بل أوجد الحل لتلك الاحتياجات حيث قام بتصميم واطلاق برامج متنوعة للتعلم الرقمي، وأنشأ مصانع للأجهزة اللابتوب والألواح الالكترونية، وتقدم بطلبات لشراء خطوط للإنترنت لتزويد جميع مراكز التعليم بخدمة الانترنت مجاناً، وزاد بأن جاد بإطلاق “منصة طلال ابوغزالة العالمية للتدريب الرقمي” لتهيئة الجميع للدخول الى هذا العالم المتطور.
قد يتساءل البعض عن ماهيّة ” التحوّل الرقمي” ومدى أهميته في القطاع التعليمي خاصة في الدول النّامية التي تواجه الكثير من التحديات، ويواجه بالتالي رواد العلم الصّعوبة في تناول ونهل المعلومات والخبرات نتيجة الظروف التي تمر بها. ولقد أشار المنتدى الإقليمي للإتحاد الاوروبي (2023) إلى أهميّة التّحول الرقمي حيث أصبحت المكونات الرقميّة مطلباً أساسياً في يومنا هذا ممّا أدى إلى الإعتماد التام عليها في عمليّة التنمية، بل أكثر من ذلك تحولت إلى إستثمار طويل الأمد في القطاع التعليمي.
ويمكن للتّحول الرقمي أن يدعم عملية التعليم وينقلنا بشكل أسرع إلى التنبؤ بالمستقبل عبر السرعة التي يزودنا بها من خلال توافر النطاق الرقمي فيمكّننا من معرفة ثغراتنا في المناهج ومراقبة جودة التعليم وتسريع عملية التواصل بين مختلفة أقطاب العملية التعلميّة.
من ناحية أخرى ينقلنا إلى طرق تعليم حديثة ويخرجنا من الأطر التقليديّة للتعليم التي لم تعد متناسبة مع قدرات هذا الجيل الذي يتطلب من القائمين على العملية التربوية إعادة النظر في المنهاج التربوي القديم وإستحداثه بطريقة إبداعية عبر فتح البوابة الإلكترونية أمامهم مما يسمح بالإبتكار وتكوين الشخصية حيث ننتقل من عملية التلقين إلى عملية التعلّم الذاتي عبر فتح مجرات التعلّم أمامهم عبر الوسائل المختلفة من البرامج السمعية-البصرية وغيرها… فتسمح بمراعاة الفروق الفردية، فلم يعد المتعلّم محصوراً في كتاب ولوح ومنهج محدد يتطلب منه حفظه بل تحوّلت العملية التعليمية إلى عمليّة تفاعليّة والمعلم أصبح وسيطاً مهمته تسهيل عملية التعلّم في أي وقت، فلم يعد هناك عائق في إيصال المعلومة فيمكن للمتعلم أن يتلقاها في أي زمان ومكان ويطور بالتالي من نفسه حسب قدراته.
لا شك ان الكتاب الإلكتروني سيوفّر على الطالب دفع مبالغ كبيرة للحصول على الكتب، كما سيجعل من أي تعديلات في المناهج مسألة سهلة لا تتطلب إتلاف الكتب القديمة وطباعة كتب جديدة بتكلفة لا يتحمّلها سوى الطلاب.
ولكن يحلو للبعض أن ينسف أهمية الألواح الرقمية كبديل للكتب، بحجة أنّ الحقيبة تؤدي دورا مهما في ملء الفراغ الذي يشعر به الطفل خلال الأيام الأولى في المدرسة، إلا أنّ الحقيبة التي تحتوي على لوح رقمي هي نفسها التي تحتوي على كتب ثقيلة، الفارق فقط في الوزن والحجم، وراحة التلميذ، سواء كان طفلاً في سنوات دراسته الأولى، أو طالب جامعة على أبواب التخرج.
أما بالنسبة إلى مخاوف الأهل، خصوصاً أهالي التلاميذ الأصغر سناً، من أن يتحوّل اللوح الرقمي من أداة للدرس إلى أداة لللألعاب الإلكترونية، فقد وجد لها أبوغزاله حلّا بإطلاقه مشروعاً لإنتاج لوح رقمي تعليمي فقط، مخصص للتلاميذ الأصغر سناً، ضمن استراتيجيته المستمرة منذ أعوام بعد إطلاق أوّل لابتوب وهاتف محمول ولوح رقمي عربي، يصبح معه الكتاب المحمول ذكرى من الماضي، ما يوفر على البيئة المزيد من التلوث، وعلى الدول المزيد من الأعباء المالية، وعلى التلميذ حمل الحقيبة الثقيلة، وعلى الأكاديميين مهمة تعديل المناهج دون الحاجة إلى إتلاف الكتب.
فهل سيكون عسيراً على المؤسسات التعليمية الانتقال إلى التعلم الرقمي، مع جيل اعتاد أن يقرأ الكتب والمقالات والصحف رقمياً؟ لا يحتاج الأمر إلا إلى نوايا حقيقية ودعم حكومي لننتقل بعدها إلى فضاءات جديدة سيستفيد منها الجميع حتماً.